الخميس، 21 يناير 2021

" الرسالة الأخيرة " قصة قصيرة. للكاتب عمر حداد .

 " الرسالة الأخيرة "

قصة قصيرة.
عمر حداد .
شدَّ على كفها قائلاً : إياكِ والنسيان .
نظرت إليه ، أحست بقشعريرةٍ باردة ، كانت تخاف أن يكون لقاؤهما الأخير .
أسرعت فاطمة نحو أختها وانصرفتا بغير توقف ، كانت غزة يومها تحت قصفٍ شديد ، المشهد وحدهُ كافٍ ليدخلك في دوامةٍ من الحزن والأسى ، صراخ النساء اللواتي اعتدن على استقبال الموت ، بكاء الأطفال الذين يبحثون عن براءتهم وأحلامهم ، والرجال الذين يتكئون على بنادقهم والذين بدورهم يصارعون الحياة ، والموت .
اضطرت فاطمة للنزوح مع عائلتها إلى يافا ، شعرت عند صعودها إلى الحافلة أنها تغادر فلسطين بأكملها ، أحست بغربةٍ لا مثيل لها ؛ وهي تكفكف دموع القهر بيديها .
نظرت في عيون الراكبين معها ؛ وهي تبحث عن خيطٍ من الأمل ، عن القشة التي يبحث عنها الغريقُ في عرضِ المحيط ، عن أي شيء يعيد إليها زياد سالماً ، لقد ترك في سمائها جملةً معلقةً كقرص الشمس الملتهب ، لا تغيب أبداً ، قالت لنفسها : ( إياكِ والنسيان يا فاطمة ) .
لكزتها أختها بحزنٍ عميق قائلةً :
- لماذا يتحتم علينا في غزة أن نكون بين موتين لا ثالث لهما ؟!
- لا أعرف ، لكن قال لي زياد ذات مرة : ( إن غزة هي الرصاصة المستقرة في العمود الفقري للاحتلال ، إنها الشوكة العالقة في حلوقهم ) .
- هل قال شيئاً قبل رحيله ؟
- لقد قال الكثير ، إنه يرفض المساومة ، ويرفض النسيان أيضاً ، إن القضية بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت .
أطبق صمت ثقيل ، وحده محرك الحافلة ينخرُ في رأسِ فاطمة .
وصلت فاطمة مع عائلتها إلى يافا ، لقد كان سفراً طويلاً ومتعباً بالنسبة إليها ، لم يكن مجردُ انتقالٍ من منطقةٍ إلى أخرى ، بل كان سفراً مؤلماً من ذاكرتها ووجودها إلى مصيرٍ لا تعرف عنه شيئاً .
قال والدها : سنذهب إلى بيت أخي .
دخلت فاطمة إلى بيت عمها متلهفة ؛ تبحث في وجوه الحاضرين عن خبرٍ يبددُ المخاوف التي اعترتها ، ولكن دونما جدوى .
انقضت ثلاثة أيام ، وغزة تمتد أمام فاطمة كالأفق ، لم تنسَ ، لم تنسَ أبداً .
كانت تزرع الغرفة جيئةً و ذهاباً حين سمعت عمها يقول :
- استشهد زياد ، لقد حولته قذيفةُ الدبابة إلى أشلاء يصعبُ جمعها .
ملأ الخبر أذنيها ؛ كأنه دوي انفجار ، شعرت بضعفِ ركبتيها ، وسقطت خلف الباب تبكي .
كان ذلك منذ عشرين سنة .
اليوم تعيش فاطمة مع أولادها الثلاثة ، لقد تزوجها ابن عمها ، لم تكن مشكلتها مع النصيب والقدر ؛ فهو أمر لا مفر منه ، كانت مشكلتها الكبرى مع الذين يبيعون القضية ، ويقبضون ثمن الدماء التي سفكت ظلماً .
لقد أيقنت أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزلٍ عن تاريخه و ذاكرته ؛ فالتاريخ أساس وجودهِ ، والذاكرة مرآةٌ لحاضره ومستقبله.
كان ابنها فارس يقرأ كثيراً عن الأدب الفلسطيني ، أدركت في قرارة نفسها أن مسألة انضمامه إلى صفوف الفدائيين ؛ أمراً واقعاً لا محالة .
جلست ذات يوم تنظر إليه بتمعن ، وهو ينظر إليها ويبتسم ، قال لها :
- عين الرضا أليس كذلك ؟
- قالت : بلى .
وحين همَّ بالخروج ، لحقت به ، أمسكت يده ، شدَّت عليها قائلة :
- إنني لا أستطيع أن أمنعك عن شيء تحبه و تؤمن به ، لكن إياك والنسيان .
- انتهت -

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق